الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
لكن خذ قاعدة:عندما تجادل إنسانا في قضايا العقل هل له دخل في الشريعة أو ليس له دخل؟ هذه مسألة تتكرر كثيرا بين طلبة العلم لكن فصل الخطاب فيها:أن تعلم أن العقل مكتشف للدليل وليس منشئ له، فالدليل يضعه الله في كتابه أو على لسان رسوله وإنما أصحاب العقول يكتشفون تلك الأدلة ويتوصلون إليها بعد أن وضعها الله لهم في كتابه أو على لسان رسوله أو كانت آية من الآيات العامة المنثورة في الخلق.هذه الآية الأولى التي نريد أن نقف عندها.الآية الثانية: آيات مسترسلات ست آيات بعضها بعد بعض، قال الله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون} [59- 65] سورة الأنعام.نبدأ بالأولى:{وعنده مفاتح الغيب} هذا أسلوب حصر مر معنا كثيرا وقلنا إن من أساليب الحصر في اللغة تقديم ما حقه التأخير وأصل الآية (مفاتح الغيب عنده)، فقدم الله الخبر على المبتدأ ليصبح المقام مقام حصر، فيصبح المعنى وعنده مفاتح الغيب أي ليست لأحد غيره مفاتح الغيب.لكن لو قال: (ومفاتح الغيب عنده) يحتمل المعنى: مفاتح الغيب عنده وعند غيره لكنه قال: {وعنده مفاتح الغيب} جعل الأمر محصورا لأنه قدم الخبر على المبتدأ وقلنا تقديم ما حقه التأخير أسلوب من أساليب الحصر في بلاغة العرب.{وعنده} أي عند الله: {مفاتح الغيب} مفاتح جمع مفتاح وهي عند النحويين اسم ممنوع من الصرف لأنه على وزن مفاعل.لكن الذي يعنينا هنا أن مفاتح الغيب- والقرآن يفسر بعضه بعضا- خمسة:وقد مرت معنا في خطب ودروس عدة لذلك سنعيدها إجمالا لا على وجه التفصيل، يقول الله جل وعلا: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} النفي مع الاستثناء كذلك أسلوب من أساليب الحصر {لا يعلمها إلا هو} ثم لم يذكر الله في هذه الآية ما هي مفاتح الغيب لكن السنة فسرت القرآن قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله» ثم تلا: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} [34] سورة لقمان. خاتمة سورة لقمان.نقول إن مفاتح الغيب أمر لا يعلمه إلا الله لا يعطى لأحد. أما الغيب الباقي يمكن أن يطلع الله جل وعلا عليه بعض عباده قال الله جل وعلا: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول} [(27) سورة الجن]، فقد يطلع الله بعض عباده على بعض غيبه لكن مفاتح الغيب أمر اختص الله جل وعلا به وحده لا يطلع عليه أحدا كائنا من كان إلا وقت المراد من الغيب نفسه.فقلنا بناء على آية لقمان أصبح أعظم الغيبيات:علم الساعة: وهي أعظم الغيبيات بدلالة القرآن والسنة فجبرائيل سيد الملائكة يسأل نبينا صلى الله عليه وسلم: «أخبرني عن الساعة؟ قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» أي علمي وعلمك فيها سواء والله يقول: {لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت} بل إن إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور لتقوم الساعة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه قد أحنى جبهته وأصغى أذنه والتقم القرن ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ» فإذا الذي سينفخ إسرافيل لا يعلم متى ينفخ من باب أولى ألا يعلم الناس، فالساعة يا أخي أعظم الغيبيات.{إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث}.إنزال المطر: تحديد وقته لا يعلمه إلا الله أما ما تراه من إرهاصات هذه مقدمات تصيب وتخطئ عوارض غالب الظن أنه يقع غالب الظن أنه لا يقع لكن لا يجزم بهذا أحد وقد نقل القرطبي رحمه الله عن بعض علماء المسلمين أن من جزم بنزول الغيب قال غدا مطر يكفر لأنه خالف صريح القرآن.{ويعلم ما في الأرحام} قلنا مرارا إن {ما} هنا موصولة تدل على العموم أي يعلم ما في الأرحام إن كان ما في الرحم سقطا سينزل أو سيتم خلقه يعلم الله جل وعلا إن كان شقيا أو سعيدا يعلم الرب تبارك وتعالى إن كان سيعمر أو لا يعمر أمور شتى تتعلق به إن كان ذكرا أو أنثى إن كان كاملا أو خديجا، غير ذلك مما يتعلق به لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى.{ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا} ونقول إنه فرق ما بين جدول العمل وبين ما تحصل عليه من العمل فإن المعلم يعلم جدول حصصه قبل العام وكذلك كثير من الناس ممن لهم أمور مرتبة وجداول وأعمال، لكن هل يحصل هذا العمل؟ هو الذي يسمى في اللغة كسبا وهذا لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى فقد يحول الله بين المرء وبين ما يريد قبل أن يقع الأمر بلحظات.{ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض} وفي المسند: «أن من أراد الله أن يقبض روحه في أرض جعل له حاجة إليها». ومن جهل المكان من باب أولى أن يجهل الزمان والمقصود من هذا كله إجمالا لأنه قد مر معنا كثيرا أن مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الرب تبارك وتعالى.{وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}. هذه يا أخي من أعظم آيات الربوبية في القرآن.يخبر الله جل وعلا فيها عن سعة علمه وعظيم إحاطته بخلقه وأن ما تراه العيون وما لا تراه مثاقيل الجبال ومكاييل البحار وورق الأشجار على كثرته واتساعه وعظيم عدده لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى وهي على اتساعها أينما كانت وأينما غابت عن عيوننا الغيب والمجهول غياهب البحار ومفاوز البر كل ذلك ما يقع فيه وما يكون في ليل أو في نهار في أي زمان أو في أي مكان الله جل وعلا مطلع عليه قد علمه وكتبه وأراده وشاءه قال الله تعالى: {ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة} ثم تسقط ثم تتناقلها الرياح ميمنة وميسرة شمالا وجنوبا ثم تذوب ثم تهوي كل ذلك يعلمه الله جل وعلا لا يخفى عليه من خلقه خافية أينما كانت {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} [16] سورة لقمان.والإنسان ستره الظلام أو كان في الضوء فالله جل وعلا مطلع عليه علم الناس ما فعل أو لم يفعل الله جل وعلا مطلع عليه أسر في نفسه أم أعلن الله جل وعلا يعلم ذلك كله فالقلوب له مفضية والسر عنده علانية ولا تخفى عليه من خلقه خافية.{ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة ولا حبة} أي ولا حبة تسقط {في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس} وقوله جل وعلا: {ولا رطب ولا يابس} أسلوب قرآني يسمى عطف عام على خاص لأن كل ما سلف لا يخلو من كونه إما رطب وإما يابس إما حي وإما ميت وهذا معنى رطب أو يابس. {ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس} كل ذلك {إلا في كتاب مبين} أي في اللوح المحفوظ فإن الله أول ما خلق القلم قال: اكتب، فقال ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.فما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، جفت الأقلام وطويت الصحف وأنت تسعى وراء رزق سيأتي إليك أو تطلب شيئا لن يأتيك أبدا، فالعاقل من أحسن صلته مع ربه جل وعلا.وأهل العلم والفضل يقولون: «من خسر مع الله جل وعلا ماذا ربح؟ ومن ربح مع الله تبارك وتعالى ماذا خسر؟» فمن ربح مع الله لم يخسر شيئا ومن خسر مع الله لم يربح شيئا ولو أوتيت له الدنيا بحذافيرها. {إلا في كتاب مبين}.ثم قال جل شأنه: {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى} نسب الله جل وعلا هنا الوفاة إلى ذاته العلية رغم أنه نسبها كما سيأتي إلى الملائكة في آيات أخر لكن يقال إن نسبة الأمر إلى الله نسبة حقيقة ونسبة الأمر إلى غير الله نسبة تكليف أي كلف الله أحدا أن يقوم بها كما كلف الملائكة، وقول الرب: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} المقصود به المنام وليس المقصود به الوفاة الحقيقية.وقد قلنا في تأملاتنا في سورة المائدة: إن الوفاة في القرآن تأتي على ثلاثة معاني:تأتي بمعنى الموت وقلنا منها قول الله تعالى: {توفته رسلنا}.وتأتي بمعنى النوم مثل هذه الآية: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} وقول الله تعالى في سورة الزمر {الله يتوفى الأنفس حين موتها الله}.وتأتي بمعنى الرفع وقلنا إن الله قال لعيسى {إني متوفيك ورافعك إلي}.والمقصود من هذا كله أن الوفاة هنا بمعنى النوم والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ قال: {الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور} فسمى النوم موتة صغرى.وصفوة القول أن يقال:إن للروح علاقة مع الجسد تختلف من حال إلى حال علاقة قبل أن يوجد الجسد، يوم كانت أرواحنا في ظهر أبينا آدم، وعلاقة بعد أن نفخ فينا الروح يوم كنا أجنة في بطون أمهاتنا وعلاقة شبه كمال وهي علاقة الروح بالجسد في حال اليقظة وعلاقة أقل من هذا وهي علاقة الروح بالجسد في حال النوم وعلاقة لا نعلم كنهها وهي علاقة الروح بالجسد في حياة البرزخ فإن الإنسان ينعم ويعذب في حياة البرزخ وعلاقة وهي علاقة الكمال والتمام تكون بعد البعث والنشور لأنه لا موت بعدها.نجم عن هذا ست علاقات:قلنا علاقة في عالم الأرواح وعلاقة في عالم الأجنة وعلاقة في عالم اليقظة وعلاقة في عالم النوم وعلاقة في عالم البرزخ والسادسة علاقة بعد البعث والنشور، هذه العلاقة علاقة الروح مع البدن حال النوم.{وهو الذي يتوفاكم بالليل} ثم تعود الروح ولم تكن قد أخذت بالكلية أما الكيفية فمسألة لا يعلمها إلا الله. {وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار} جرت سنة الله في خلقه أن النهار للمعاش فلما كان الإنسان في النهار يعمل ويكد من أجل عيشه يكد بماذا؟ يكد بجوارحه ولذلك قال الله جل وعلا: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} فلما كان يكد الإنسان بالجارحة أخذ الله منها الفعل فجعله ملتبسا بالمعاش بالنهار فقال: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} أي ما كسبتم فعبر عن الآلة عما تسبب به الآلة فالذي يتسبب بالرزق الجارحة فعبر عنها الله لأنها تؤدي نفس الغرض.{ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه} يبعثكم أي يوقظكم من منامكم {فيه} أي في النهار لماذا؟ {ليقضى أجل مسمى} وهذا باعتبار الأفراد لا باعتبار الجماعات بمعنى أن كل فرد له أجل مسمى كتبه الله جل وعلا عليه {ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون} [الأنعام: 60] وهذه مرت معنا كثيرا.ثم قال جل ذكره: {وهو القاهر فوق عباده} بما أنه قاهر وقلنا إن السورة حجة في إثبات توحيد الربوبية والألوهية بما أنه جل وعلا قاهر مالك لجميع الخلق فإنه يفعل في خلقه ما يشاء. فكما أنه تبارك وتعالى خلقهم ورزقهم وجعل لهم طريقا موصلا إليه وقال: {لتركبن طبقا عن طبق} [الانشقاق: 19] أي أن الخلق أطوار منذ أن كانوا في ظهر أبيهم ثم في بطون أمهاتهم حتى وصلوا ثم أصبحوا ينامون بالليل ثم يبعثون بالنهار وانظر تسلسل الآيات بقي المرد إلى الله فقال الله جل وعلا: {وهو القاهر فوق عباده} فلما كان قاهرا مالكا ملكا حقيقيا متصرفا قال: {وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} [الأنعام: 61].هذه (إذا) في اللغة تأتي على ثلاث معاني:تأتي قبل التلبس بالفعل تقول إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ أي قبل أن تقوم إلى الصلاة ماذا تفعل؟ تتوضأ، إذا وقفت بين يدي الله فكبر هذا حال التلبس بالفعل، إذا صليت فاقرأ القرآن أي بعد دخولك في الصلاة بعد التلبس بالفعل.هنا {حتى إذا جاء أحدكم الموت} أي حتى إذا قرب الموت وجاءت علاماته ودنت ساعته وحان الأجل ما الذي يحصل؟ قال الله: {توفته رسلنا وهم لا يفرطون} الرسل هنا هم من؟ الملائكة.وينبغي أن تعلم أن قرب الله من خلقه من عباده على طريقين:قرب بذاته وقرب بملائكته فالقرب بالملائكة هذا واحد منها وقد فسره الله جل وعلا في سورة الواقعة قال سبحانه: {ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون} [85] سورة الواقعة، وليس قرب الله بذاته إنما قرب الله بماذا؟ بملائكته. {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا} الأصل أن الموكل بقبض الأرواح ملك لكن هذا الملك له أعوان.ومفهوم الآية لا يخلو من أحد أمرين وبهما قال العلماء:إما أن تكون الملائكة هي التي تخرج الروح حتى إذا دنت من الحلقوم تركتها لملك الموت فهو الذي يقبضها والله يقول: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} [11] سورة السجدة.الجمع بين هذه الآية وبين آية السجدة:الله يقول في هذه الآية آية الأنعام: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا} وقال في السجدة: {قل يتوفاكم ملك الموت} نقول: قال بعض العلماء: إن الملائكة تقبض الروح تستلها من الجسم كله استلالا يختلف من روح المؤمن إلى روح الكافر وليس هذا موضع بيانه فإذا دنت الروح من الحلقوم قام ملك الموت بالنزع الكلي أو الآخر هذا قول.وقول آخر: أن ملك الموت هو الذي ينزع الروح وقد جعل الله له العالم كالمأدبة بين يدي من يريد أن يأكل يأخذ منها كيفما يشاء فإذا كثر عليه في يوم قبض الأرواح مجرد أن يناديها تأتي وكل ذلك بأمر الله وسواء صح هذا أو لم يصح العقل لا يرده والشرع لا ينافيه، والمقصود هذا رأي.
|